تطوير التعليم القانوني في المملكة العربية السعودية

د. راكان فهد الحربي

 

 

التعليم ليس مجرد تخزين المعلومات

إذا أردنا أن نرى الواقع، فعلينا النظر بعين التقييم لا المشاهدة، والتعمق في الأسباب وطرق معالجتها لا مجرد تقديم وصف للواقع. التعليم العالي بشكل عام لا يتعلق بمجرد فكرة التلقين، بل التغيير في شخصية الإنسان وتنمية ملكاته الذهنية والاجتماعية والأخلاقية، بالتوازي مع اكتساب المهارات المهنية.

كل هذا يأتي في إطار تنفيذ استراتيجية تعليم منضبطة من حيث النظام، ومتناغمة بين المنهج النظري والواقع العملي الحالي والمستقبلي.

 مثل هذه المهمة التعليمية ليست تعليمية بحتة، بل هي بالأساس مهمة تربوية، لأنها تغير من طريقة تفكير الشخص بالعالم من حوله، وتنقل غاياته وأهدافه بالحياة من مجرد إنسان يعيش، إلى إنسان يغير من معيشة الأفراد في مجتمعه، حاملا الفكر المطلوب للتنمية البشرية قبل الاقتصادية.

طالب القانون بالفكر الأكاديمي المختلف

في المملكة العربية السعودية هناك ما يقارب من ٢٧ برنامج يقدم بكالوريوس القانون، و١٣ برنامج يقدم بكالوريوس الشريعة، و٧ برامج تقدم دبلوم المحاماة.

في اليوم الذي يدخل فيه طالب القانون تخصص القانون، تتغير شخصيته على الفور، حيث يتحول من فكر الدراسة إلى المدارسة، ومن الاستيعاب إلى التحليل، ومن حفظ المحتوى إلى إدراك ما بين السطور.

هذه هي طبيعة النص القانوني، فهو عبارة عن قاعدة تستند في مسبباتها على الواقع، لكنها بالمقابل تفرض واقعا جديدا مأمولا؛ فالقانون لا يهدف إلى الردع والتقييد، بقدر ما يهدف إلى الانضباط والتنظيم.

 

 

الرؤية المثالية للتعليم القانوني ..

حتى يكون بإمكان كليات القانون إعداد جيل من القانونيين المتميزين، فعلى هذه الكليات أن تنجح في حل الإشكاليات التعليمية التالية:

أولاً: اعتماد منهج التعليم القانوني المقارن بين مدارس القانون

الإشكالية الأولى التي تواجه إعداد المناهج التعليمية القانونية هي ما إذا كانت ستعتمد على مدرسة القانون اللاتيني أم الانجلو-أمريكي؛ وبين المدرستين اختلاف يصل إلى حد التعاكس.

 تعتمد طبيعة كثير من المقررات الاكاديمية في كليات القانون بالمملكة على تحديد نص ملزم صريح لكل مسألة، بحيث يكون النص ملزما لأطراف التعامل وأصحاب الحقوق وحتى القضاء؛ لهذا يكون المنهج التعليمي اللاتيني منهجا نظريا شكليا أكثر منه عمليا، لأن معرفة أساسيات القانون وقواعده العامة هي المفتاح لتطبيقه.

فلن ينتظر طالب القانون أية مفاجآت لدى تطبيقه العملي في المهنة كمحام أو قاض، بل إن ما درسه على الصفحات هو ما سيلتزم به، مع وجود في بعض الترتيبات الإدارية العملية غير المؤثرة على جوهر الحقوق.

بينما تعتمد المدرسة الانجلو-أمريكية على استقرار التطبيق القضائي للوقائع، وتتخذ من السوابق القضائية مبادئ شبه ملزمة للقضاء، الأمر الذي يسمح للقاضي بإبداع حلول عملية للوصول إلى العدالة دون تقيد بقوالب النص النظري الجامد.

لكن المشكلة في هذه المدرسة ستبقى في غموض الوضع القانوني للمتعاملين في ظل عدم وجود نصوص تفصيلية صريحة للوقائع، أو وجود نص لكن القضاء قد يجتهد لابتكار طريقة مغايرة لفهمه وتطبيقه، فالسوابق العملية تتجاوز في احترامها النصوص النظرية وفق أساسيات هذه المدرسة القانونية.

لذا، ينبغي على كليات القانون التي تعتمد في مقرراتها الاكاديمية على منهج المدرسة الانجلو-أمريكية أن تتبنى برامج تمرين عملي مكثف لهده المقررات؛ بغرض التعرف على أنظمة القضاء وتدارس السوابق القضائية المستقرة، وفهم مسبباتها وأبعادها، وكيفية تطوير الاجتهاد القضائي بما يخدم العدالة بمعناها الراهن.

بالنتيجة، فإن كلية القانون الناجحة يجب أن تعتمد على منهج تعليمي مقارن بين المدرستين برؤية عالمية واسعة لا تحصر معرفة الخريجين في مدرسة واحدة وكأنها الوحيدة، ولا تجعل أفقهم ضيقا إلى درجة الشعور بالجهل إذا تمت مناقشة القانون من وجهة نظر المدرسة الأخرى.

فالمقارنة في المنهج التعليمي القانوني ليست بين قوانين نظرية جاهزة، بل بين مدارس قانونية تحمل كل منها ظروفها العملية المرنة المتغيرة وفق ظروف كل دولة.

ثانياً: مراعاة العلاقة ما بين القانون والتخصصات الأخرى

معظم كليات القانون تتجه اليوم إلى الفصل في موادها بين القانونين العام والخاص، حيث نجد أن القانون العام يضم مواداً أهمها القانون الإداري والضريبي والجزائي ومرافعاتها، بينما يضم القانون الخاص مواد أهمها القانون المدني، والتجاري، والشركات، ومرافعاتها.

لكن هذا الفصل الشكلي بين المواد غير كاف لجعل الطالب مستعداً مالم يتم ربط عملية الفصل بالعلوم الأخرى كالاقتصاد والإدارة وأمن المعلومات لإدراك أوجه التداخل ما بين القانون وهذه التخصصات.

فالطالب، يجب أن يدرك المبادئ الأساسية لهذه التخصصات، إلى درجة تمكنه من امتلاك أدوات الفهم القانوني للقاعدة القانونية وابعادها الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بفعل إدراكه العميق لهذه العلوم وعلاقتها بالقانون.

ثالثاً: مراعاة التمييز بين القانون والتقنين

أكثر ما يعوز طلاب وطالبات القانون هو إدراك التوجهات العليا للقواعد القانونية العامة، ومحاولة إسقاطها على جزئيات القواعد القانونية الأدنى.فالقاعدة العامة شرعت حتى تحكم طيفا غير محدد من الوقائع التفصيلية دون ضرورة الإشارة مباشرة إلى هذا الأثر الواسع للقاعدة، وعليه يتم إصدار التقنين code.

أما القانون التفصيلي؛ فهو عبارة عن قواعد جزئية يجب ألا تتعارض مع اتجاه القواعد العامة إلا على سبيل الاستثناء المبرر خدمة للمصلحة العامة أو الخاصة بحسب القوانين، وهي قوانين عديدة لا يمكن تدريسها كلها للطلاب بل تدريس أهمها فقط، لذا يكون إدراك الطالب للقواعد العامة وآلية تطبيق القواعد الخاصة هو الأهم، لأنه يمنح الطالب قدرة إسقاط الأفكار على كافة القوانين حتى التي لم يسبق له أن درسها.

فالنظام المدني هو في الواقع تقنين؛ لأنه يفرض مجموعة من القواعد العامة الأساسية التي يجب أن ترشد كافة المخاطبين بأحكامها، وأن يرجعوا إليها مباشرة في حال عدم وجود نص خاص يحكم المسألة، أما قانون التجارة فهو قانون جزئي يحكم وقائع وتصرفات خاصة بمجتمع التجار وفق قواعد استثنائية الغرض منها مراعاة الطبيعة التجارية.

المشكلة أن الطلاب لا يدركون علاقة الأصل بالفرع هذه، وذلك بسبب آلية الحفظ والتلقين في كليات القانون التي تسمح للطالب بالنجاح إذا تذكر مجموعة من النصوص القانونية، بغض النظر عن أبعادها وغاياتها وكيف سيتصرف في حال عدم وجودها.

لذا، فإن تطوير التعليم القانوني يتطلب ببساطة التأكد من قدرة الطالب على تغطية النقص القانوني عبر الاسترشاد بالقواعد العامة في التقنين الأساس.

رابعاً: ارتباط المعرفة بالمهنة وباحتياجات السوق

أحد المعايير الأساسية لتقييم أي تعليم أكاديمي هي مدى جاذبية الخريجين لفرص العمل؛ فإذا كانت الشهادة عبارة عن مستند ورقي لا يخدم حاملها في إيجاد عمل، فإن المشكلة تكمن بالأساس في نظام التعليم.

وهذه الإشكالية تظهر بشكل أوضح على صعيد فرص العمل القانونية؛ لأن خريج القانون الذي يجد نفسه غير قادر على تقديم استشارة لمؤسسة أو فرد، لن يجد فرصة عمل، ثم إذا أصبح محاميا، فلن يقدر سوى على تسيير بعض الملفات ذات الخصومات البسيطة شبه المحسومة.

أيضا، المستشار القانوني إذا كان عاجزا عن إدراك الغايات التشريعية، وتمسك بظاهر الحال، فإن استشاراته ستكون منفصلة عن الواقع، ولن يمتلك المهارات الذهنية لإيجاد الحلول القانونية المناسبة.

أما على صعيد الوظائف القانونية في القطاع العام والخاص، فإن ضعف التأهيل القانوني لخريجي القانون، سيعني بطالتهم شبه المؤكدة، واستحواذ الخبرات الاجنبية على الوظائف.

 لذا، فإن التعليم القانوني يجب أن ينطلق من احتياجات سوق المهن والوظائف القانونية، وأن يقدم للسوق خريجين قادرين على تقديم الإفادة لقطاع الأعمال والتكنولوجيا بأحدث صيغها الراهنة.

خامساً: التعليم التفاعلي.. التفاعل الأكاديمي وليس الامتحان الأكاديمي

يجب أن يكون منهج كلية القانون مرنَاً وواسعاً بما فيه الكفاية لاستيعاب إبداع الطلاب؛ ولا يمكن تنفيذ هذه الرؤية إلا عبر التعليم التفاعلي بين مجتمع الطلاب والأساتذة.

أي يجب أن يتم إلغاء بعض المحاضرات الإنشائية، واستبدالها بجلسات حوار يتم فيها مناقشة الأفكار بشكل نقدي لأحدث تطورات الساحة القانونية دون منهج ثابت محدد لكن مع محاور علمية واضحة، ويتم فيها استضافة بعض المتخصصين من المحامين والقضاة في بعض الموضوعات القانونية مثل التعاملات والعقود والمسؤوليات والجرائم وهكذا؛ كل ذلك تمهيدا للامتحان الذي سيكون موضوعه مدى استيعاب الطلاب لما جرى في جلسات الحوار أو الاستضافات العلمية.

وهذا ما سيضمن وجود مهارات الخطابة والحوار والتحليل القانوني لجميع الخريجين، خاصة إذا تضمن التعليم في بعض الاحيان جولات ميدانية للطلاب على المحاكم والشركات ولجان الشؤون القانونية الحكومية وغيرها؛ لمعاينة الممارسة الواقعية وعقد جلسات الحوار على أرض الواقع؛ وهكذا فإن التعليم التفاعلي يدمج بين اكتساب المعرفة النظرية وتجربة تطبيقها على المستوى العملي.

حتى أنه يمكن السماح لطلاب السنوات الأخيرة بخوض تجارب قانونية حقيقية على سبيل التطوع للفئات الفقيرة من المجتمع، أو ما يسمى اصطلاحا بالعيادات القانونية، حيث يقوم الطلاب بالترافع وتقديم الاستشارات، وهو ما سيضمن للطلاب صقل المهارات القانونية عبر الاحتكاك الجدي بالمنازعات القانونية.

سادساً: التعليم المستمر.. حتى لا تتقادم القيمة العلمية للشهادة القانونية

موضوع التعليم المستمر أصبح حاجة أساسية في ظل التطور المتسارع للعلوم التقنية، وهي التي ترخي بآثار مباشرة على تعاملات الناس وقطاع الأعمال والمشاريع المالية، وحتى هيكل الشركات والإدارات الحكومية.

فعلى كلية القانون أن تكون قادرة على تقديم التعليم المستمر ليس لطلابها، بل لخريجيها، وذلك عبر القيام باجتماعات سنوية وعقد لقاءات دورية مع الخريجين لمناقشة أحدث التغييرات على الساحة القانونية وتأثيرها على قيمة المعرفة لدى خريجيها، حتى يتم التأكد من إتقان الخريج لأحدث القوانين وإدراكه لأبعاد الغايات التشريعية الجديدة التي طرأت بفعل التغييرات التقنية بصفة خاصة.

كما يجب على كليات القانون في المملكة من عقد الشراكات النوعية مع الهيئات والجهات الحكومية من أجل عقد مسارات خاصة للتأهيل القانوني للخريجين في مجالات دقيقة كالضرائب والأمن السيبراني والمعاملات المالية، على أن تكون بمثابة برامج تدريب تنتهي بتوظيف للبعض وتأهيل الاخرين لسوق العمل.

سابعاً: مرونة الكادر الإداري وقابليته للتطوير

 أحد أهم ممكنات التطوير هو وجود الكادر الإداري والأكاديمي المتميز الذي يستطيع أن يقود مرحلة التغيير، تعاني العملية الإدارية في كليات القانون من التعقيدات، والبيروقراطية والتي تجعل ديناميكية التغيير بطيئة.

تنشأ الإشكالية بصفة خاصة من عدم مرونة الكادر الأكاديمي بكليات القانون مع التغيير، على سبيل المثال صدور الموافقة على تغيير مقرر دراسي أو تحديثه يتطلب الموافقة من العديد من اللجان الاكاديمية.

 شهدت المملكة في السنوات الأخيرة تنفيذ العديد من المبادرات نحو تطوير المنظومة التشريعية لاستحداث وإصلاح العديد من الأنظمة المحلية، وهذا يتطلب من كليات القانون السرعة في تطوير المناهج الاكاديمية بما يتناسب مع متغيرات المرحلة.

 لست متشائم، ولكن الواقع أن هذه القابلية نحو التطوير لا نجدها في كثير من كليات القانون للأسف، وهو ما يجعل كثير من المبادرات تبقى حبيسة تدور بين محاضر اللجان الاكاديمية، وهذا ما يجعلنا نرى المناهج قديمة في فكرها وأفكارها، والامتحانات شكلية تعتمد على الحفظ، وبالتالي يكون مستوى الطلاب في الواقع منخفضا.

بناء عليه، فإن تطوير التعليم القانوني يعتمد على مدى نجاح الإدارة الاكاديمية في كليات القانون في تسريع وتيرة التغيير بما يواكب مستجدات المرحلة ومتغيراتها الاقتصادية والاجتماعية مع المحافظة على مستوى عالي من الجودة الاكاديمية.

المقترحات:

طرح الإشكاليات السابقة لا يمنع أن نشير هنا إلى أن هناك حراك جاد لتطوير التعليم القانوني من بعض الجامعات السعودية وهو بلا شك محل تقدير، وهنا بعض المقترحات التي أتمنى أن تسهم في عملية التغيير نحو الأفضل:

  • ضرورة العمل على إعادة تصميم المناهج القانونية الأكاديمية لتكون وفق منهج مقارن يشرح مدارس القانون كافة، ويتم تضمين هذه المقررات بالعديد من السوابق القضائية، والتي يتم تقديمها وإعادة صياغتها بلغة بسيطة تتناسب مع طبيعة المقررات، ويمتحن الطلاب في مدى إدراكهم لمفردات المقرر عبر تكليفهم بأبحاث نظرية تتم مناقشتها مع الطلاب شفهيا من خلال حوار جماعي.
  • إعادة النظر في عملية توزيع الدرجات الفصلية لبعض المقررات المتقدمة لتكون مناصفة ما بين الأنشطة المهارية والاختبارات الفصلية، مع مراعاة تخفيض عدد الطلبة المسجلين في هذه المقررات.
  •         من المهم العمل على إطلاق مسارات التأهيل القانوني للطلاب الخريجيين وذلك في مجالات محددة في أنظمة سوق المال والحوكمة وغيرها، وذلك بالشراكة مع ابعض الجهات واللجان الحكومي.
  • ضرورة العمل على إطلاق المسابقات البحثية لطلاب القانون الخريجين، وذلك بالشراكة مع بعض الجهات الحكومية واللجان شبه القضائية، على أن تتضمن محاور هذه المسابقات طرح لبعض الإشكاليات القانونية وسبل المعالجة لها.
  • إلزام طلاب كليات القانون  في المستوى الأخير بحضور دوراتٍ نظرية وعملية (عدد ساعات محدد) عن أحدث التطوُّرات والإصدارات في الساحة القانونية، وذلك بهدف مساعدتهم في الحصول على الاعتماد المهني السعودي للقانونيين. 
  • اعتماد ساعات إضافية للطلبة الخريجين، وذلك من أجل المشاركة في العيادات القانونية الهادفة الى الممارسة المهنية التطوعية، وتسجيل تلك الساعات في السجل الأكاديمي للطالب.
  • تنظيم المؤتمرات الطلابية العلمية والتي يقدم فيها الطلبة مشاريع التخرج الخاصة بهم على شكل ملصقات علمية، على أن تجمع هذه المشاريع ما بين تقديم بحث نظري وإجراء تطبيق عملي لفكرة البحث، بما يشمل العمل الاستقصائي الميداني والاستبيانات بغرض الاحتكاك بالواقع واستخراج نتائج ذات قيمة عملية، وكطلك فهم منهجيات ومهارات البحث العلمي.