تعرف اللغة بأنها نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية التي تصدر عن الفرد داخل المجتمع لتحقيق الاتصال بين أفراده، وهي ظاهرة اجتماعية تحيا بحياة المجتمع وتموت بموته، كما أنها كائن حي نشأ في أحضان المجتمع، فلا مجتمع بلا لغة ولا لغة بلا مجتمع. واللغة بوصفها كائن حي تخضع لما تخضع له الظواهر الاجتماعية من التغيير والتطور، وهي في تغيّر دائم ومستمر يشمل جميع عناصرها من الأصوات والصيغ الصرفية والتراكيب النحوية والدلالية.
إنَّ التغيّر والتطور اللغوي حقيقة واضحة لا يمكن إهمالها أو التغاضي عنها، ولا يستطيع أحد أن يوقف هذا التغير مهما بذل من جهد، ومهما وضع من قيود أو حدود أو قوانين في سبيل ذلك، وهذا ناتج عن أنَّ للتطور اللغوي أسباب قسرية قاهرة، من هذه الأسباب الاحتاك، وتبادل الاتصال بين مجتمع وآخر، فكلما زاد الاحتكاك زاد تبعًا لذلك التطور اللغوي.
جاء الإسلام واللغة العربية تامة ناضجة مستكملة أسباب البلاغة وأدوات التعبير، ولها رصيد أدبي كبير مفصح عن شتى الأحاسيس والمشاعر الوجدانية والاجتماعية، ثم بدأت الفتوحات الإسلامية، واختلط العرب الفاتحون بالشعوب الأخرى التي دخل كثير منها في الإسلام، وقد اضطر هؤلاء إلى تعلم العربية لغة الدين الجديد، وحصل بين العرب وهذه الشعوب اختلاط في شتى مناحي الحياة، وكان نتيجة ذلك أن تسرّب الفساد إلى لغة كثير من العرب، وقد أخذ التغيير يظهر شيئًا فشيئًا إلى أنْ سُمِع على كثير من الألسنة.
وقد فطن العلماء لهذا التغيير الذي أصاب اللغة وعدوه من الخطأ وأطلقوا عليه اسم (( اللحن))، وقد عابوه بشدة واستهجنوه على الشريف، وهو أقبح من التفتيق في الثوب والجدري في الوجه، ويعتبر اللحن الباعث الأول على تدوين اللغة وجمعها، وعلى وضع علم النحو وتصنيف قواعده وعلله وأحكامه.
بدأ اللحن قليلاً خفيفًا منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عدَّه عليه الصلاة والسلام ضلالاً، فقد روي أنَّ شخصًا لحن بحضرته، فقال لأصحابه: "أرشدوا أخاكم فقد ضل"، وكذلك كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يخاف من اللحن، ويرى أنَّه أقبح من الخطأ ذاته، يقول: "لأن أقرأ فأسقط أحب إليَّ من أن أقرأ فألحن".
وما أن يأتي عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى نجد المصادر تذكر لنا عددًا من حوادث اللحن، ومن ذلك أنَّه مر على قوم يسيئون الرمي، فلامهم على ذلك بقوله: (ما أسوأ رميكم، فقالوا: إنَّا قومٌ متعلمين، فأعرض مغضبًا، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد عليّ من خطئكم في رميكم، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "رحم الله امرأ أصلح من لسانه")، ويروى أنَّه ورد إلى عمر رسالة أولها: (من أبو موسى الأشعري، فكتب عمر إليه " أنْ قنّع كاتبك سوطًا واعزله").
والأخطر من ذلك أن اللحن بدأ يتسرب إلى قراءة القرآن الكريم، فروي أنه في زمن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان أعرابي يصلي في المسجد في الكوفة وبجواره أعجمي يقرأ في سورة التوبة: (إنَّ الله بريء من المشركين ورسوله) بجر حركة رسوله، فقطع الأعرابي صلاته وانقض على الأعجمي، وقال له: (إن يكن الله بريء من المشركين ومن رسوله فأنا أبرأ منه، فعلام بعثه فينا)، وكان في المسجد أبو الأسود الدوؤلي، فجاء إليهما، وقال لهما: لقد تعالت أصواتكما في المسجد، فما الأمر؟ فقص الأعرابي القصة، فقال أبو الأسود للأعجمي ليست هكذا، إنما هي (إنَّ الله بريء من المشركين ورسولُهُ) بضم كلمة رسوله، ثم أخذهما إلى الإمام علي، وقص عليه ما حدث، ثم صرفهما الإمام علي رضي الله عنه، وامر ألا يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، ولمَّا هم بالدخول قال أبو الأسود: يا أبا الحسن، أأضع للناس علمًا في العربية يتعلمونه، فقال: لا بعد لا بعد أخشى أن ينصرف الناس إليه ويتركوا تعلم هذا الدين، حتى جاء يوم والإمام علي – رضي الله عنه- في صحن داره، وابنته في حجره تلعب ثم نظرت إلى السماء، فقالت: يا أبتاه ما أجمل السماءُ؟ فقال: نجومها، فقالت: لا يا أبتي إني أتعجب من جمال السماء وروعتها، فقال: قولي ما أجمل السماءَ!، وبعدها استدعى الإمام علي – رضي الله عنه- أبا الأسود، وقال له: "الكلمة اسم وفعل وحرف" انحُ نحوَ هذا، فبدأ الإمام أبو الأسود الدوؤلي يضع أصول علم النحو، لكنه توفي قبل أن يتمه، ولم يصلنا من جهوده النحوية إلا شذرات.
ويستمر اللحن في الانتشار، فيروى أنَّ رجلاً دخل على زياد بن أبيه، فقال: له: "إنَّ أبينا هلك، وإنَّ أخينا غصبنا على ميراثُنا من أبانا"، فقال له زيادٌ: ما ضيعت من نفسك أكثر ممَّا ضاع من لسانك.
وللحديث بقية في الحلقة الثانية