إن الأساس الفكري الذي يستند عليه فكر الشركات، لا يتركز فقط في تغيير الطبيعة الفردية للعمل نحو الطبيعة الجماعية، بل هو تغيير في طبيعة الشخص المالك لرأس المال.
فالغاية الأساسية من وجود "شركة" وليس مجرد "مشروع فردي"؛ هو تحول رأس المال من الفكر الإنساني إلى القانوني الاعتباري. حيث إن رأس المال الخاضع لعملية التحول نحو الشركة، لا تتغير طريقة تشغيله فقط، بل تتغير جهة ملكيته أيضا.
كل ذلك ببساطة لأن الشركة نشأت على أساس فكرة الشخصية الاعتبارية التي افترضها القانون، تلك الشخصية التي تمنح الشركة حقوقا وتفرض عليها واجبات وكأنها إنسان، وبالمقابل يكون رأس المال مملوكا للشركة "الشخص"، وليس للشركاء أو المساهمين.
فما هي النتيجة لهذا التحول من الملكية الفردية إلى المؤسسية الاعتبارية؟
في اللحظة التي يتم تأسيس أية شركة، يتم تحول رأس المال إلى كيان جديد مستقل عن المالكين، هذا الكيان الذي لا يتحدد بعمر زمني ولا ينحصر في أشخاص محددين، بل هو كيان ينتمي إلى الدولة التي يحمل جنسيتها؛ هذا الكيان هو الشركة.
بالتالي، فإن الشركة كشخص اعتباري هي في الواقع الفعلي والقانوني؛ كيان معنوي يمتلك رأس المال ويقوم على تشغيله، أما ما نراه من مدراء؛ فهم مجرد ممثلين عن الشخص الاعتباري. أي أن فكرة تحول رأس المال إلى شركة، تنطوي على عملية قانونية مبتكرة، تجعل من الإنسان مجرد مدير وممثل لرأس المال، فيقوم الإنسان بالتوقيع عن الشركة، ويترافع باسمها أمام القضاء، كل ذلك من باب كونه عاملا لدى الشركة.
وقد يتبادر للذهن تساؤل: ألا يمتلك المساهمون حصصا في الشركة؟ ألا يشكل المساهمون في ذواتهم الشركة ذاتها؟
الإجابة القانونية الصحيحة؛ لا، وذلك لأن المساهم يمتلك نصيب من رأسمال الشركة، لكن شخصيته مستقلة تماما عن شخصية الشركة، فإذا تم الحجز على أموال الشركة "المدينة" بشخصيتها "الاعتبارية"، فلا يعني ذلك الحجز على حصة المساهم، ذلك حتى يثبت أن المساهم بشخصيته "الإنسانية" هو أيضا "مدين". ويستثنى عن هذه القاعدة شركات التضامن التي يكون فيها الشريك مسؤولا في ذمته الشخصية عن ديون الشركة بشخصيتها المستقلة (مادة 35، نظام الشركات)، لكن هذا الاستثناء لا ينزع عن شركة التضامن شخصيتها جنسيتها؛ وإنما يضيف إليها بعدا ائتمانيا ضامنا لأموال الدائنين ليس أكثر.
بالمحصلة، فإن الشركة تتحول بعد تأسيسها إلى جزء من المنظومة الحضارية للدولة، وتندمج في تراثها وهويتها، بغض النظر عن أعمار مؤسسيها وتداول حصصها بين الناس؛ والدليل أن بعض الشركات يفوق عمرها مئات السنوات، وتشكل بحد ذاتها علامة حضارية وتجارية للدول التي تحمل جنسيتها.
التساهل في تأسيس الشركات..
إذا كانت نتيجة تأسيس الشركة بهذا العمق القانوني-الاعتباري، فإن معنى ولادة شخصية اعتبارية مستقلة للشركة؛ هو أن رأس المال قد أصبح بحد ذاته الضمان الوحيد لحقوق دائني الشركة والمتعاملين معها.
وهذه نقطة جوهرية يتابعها المنظم بحذر شديد خوفا على حقوق الناس، واستقرار الأسواق، وسمعة رأس المال الوطني.
فالشركة مثلما تمثل ديمومة حضارية واستثمارية بالاستقلال عن الشركاء، مثلما تؤسس أيضا لمخاطر مالية جسيمة في البيئة الاقتصادية التي تنمو فيها. وقد زادت مخاطر تأسيس الشركات مع تسخير التقنية في إتمام إجراءات التأسيس؛ والسبب هو أن التيسير في الإجراءات قد أوصل انطباعا خاطئا للناس مفاده أن التيسير فيه "تساهل" وليس "تسهيل".
فالمنظم إذ هو يحاول تسهيل الإجراءات، فهو يستهدف التسهيل على أصحاب المدخرات في تأسيس الشركات واستثمار أموالهم. لكن المشكلة هي أن التسهيل الزائد قد يدفع أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة -من قليلي الخبرة الاستثمارية- إلى الاندفاع الزائد في السرعة، متأثرين بحمى التكنولوجيا؛ ذلك إلى درجة عدم استيفاء دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروع، وعدم الإحاطة بمخاطره المالية، ولا حتى ظروف المنافسة في السوق.
ففي مثل هذه الحالة، يكون تأسيس الشركة على الموقع الالكتروني عملا بالغ السهولة. لكن بعد أن تغرق الشركة بالديون، نجد أن الشركاء يقعون في ورطة التخارج الاستثماري، فتبدأ دوامة شهر الإفلاس ثم التصفية وحل الشركة.
الخاسر الأكبر في هذه الحالات ليس فقط الشركاء الذين قد خسروا رأسمالهم، بل أيضا السوق الوطنية التي كانت الشركة تحمل جنسيتها، حيث إن انتشار حالات التعثر بالديون والإفلاس لدى الشركات ينشر سمعة سيئة عن الظروف الاقتصادية في الدولة، ويجعل من وكالات التصنيف الائتماني غير مطمئنة إلى تلك الدولة، مما قد يخفض من تصنيف الدولة الائتماني؛ من باب أن هذه الدولة لم تعد حاضنة آمنة ماليا لرؤوس الأموال.
إن من أحد أهم مخاطر التي نتجت عن التطور الرقمي في تقديم خدمات تأسيس الشركات هو التساهل في دراسة المستثمرين للشركات قيد التأسيس، وعدم تحقيق الدراية المطلوبة في أبعادها السوقية، وعدم فهم بوصلة المخاطر المالية التي تحيط بها من كل حدب وصوب. ويزيد من مخاطر التساهل التي تحمله التكنولوجيا، وجود قواعد متساهلة مع الشركات الصغيرة بالذات في نظام الشركات، مثل عدم إلزام هذا النوع من الشركات بتعيين مراجع حسابات (مادة 19، نظام الشركات)، وحتى تيسير إجراءات إعادة التنظيم المالي والإفلاس على صغار المدينين وفق نظام الإفلاس.
في المملكة، على سبيل المثال يشكل قطاع التكنولوجيا المالية (الفنتك FinTech) قيمة سوقية جوهرية ذات نمو مذهل يتوقع أن تصل إلى أكثر من 13 مليار ريال من الناتج المحلي الإجمالي مع حلول 2030 وذلك لأن المجتمع السعودي شاب في معظمه، يمتلك الطموح والرغبة بالاستثمار، ويحتاج إلى إجراءات مسيرة، وجدها الشباب من خلال المنصات الالكترونية الحكومية.
وهكذا، فقد أصبح تأسيس أية شركة فنتك أمرا بالغ البساطة والسرعة، على الرغم من انعكاسات الكيان الجديد الوليد على السوق وعلى رأس المال؛ فالشركة التي يتم تأسيسها، قد تكون مثلا شركة مدفوعات الكترونية أو شركة توصيل طلبات تتقاضى أجرتها من خلال السداد الالكتروني. ولنا أن نتخيل تأثير إفلاس عدد من هذه الشركات على القطاع المصرفي وعلى مشاريع الأعمال الخدمية المرتبطة بها.
هذا على خلاف مخاطر جسيمة أخرى؛ مثل احتمال وقوع هذه الشركات الصغيرة -ذات المنظومة البسيطة منخفضة التكلفة- تحت تأثير هجمات سيبرانية تكشف للمخترقين البيانات الشخصية، وأرقام الحسابات المصرفية، وغيرها من البيانات التي تجعل الإنسان تحت رحمة منتحلي الهوية على الإنترنت.