إلى أين تتجه بوصلة الفكر العربي المعاصر؟

أ.د. مسفر بن علي القحطاني

بعد أحداث الربيع أو الخريف العربي حصلت متغيرات كبرى وعميقة في بنية المجتمع العربي وسلطاته، وكانت بعض الأحداث السياسية مثل 11 سبتمبر وغزو العراق وتفاعلات القضية الفلسطينية وانقساماتها الحادة معطى سابق يضاف في حدوث تلك المتغيرات، ولعل أهم تلك المتغيرات ما أصاب الفكر العربي من عِلل جديدة أضعفت بنية هذا العقل وأربكته عن رؤية الحلول والمعالجة لأزماته وإشكالاته المتتابعة، بل نستطيع القول أن فترة خمود وخمول دبت في مناطق هذا العقل العربي، فتوقفت حركة الفكر والنشر والابداع في عدد من الدول العربية، وأصبحت الثقافة والفكر بيد ميليشيات وتيارات مؤدلجة تنشر السلاح والرعب لمزيد من الهيمنة؛ على جسد مقطع الأوصال وعقل غائب عن الشهود، كما أدت الأزمات الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية إلا مزيد تشتيتٍ للعقول وإشغالها عن التأليف والبحث نحو التفكير كيف تأكل وتعيش فحسب؟!.

أمام هذا المشهد المحزن لحالتنا الفكرية، أحاول تسليط الضوء في هذا المقال على سؤال العنوان، في البحث عن المكان الذي يمكن أن يتجدد فيه فكرنا العربي ويستيقظ من غفوته الراهنة، واعتقد أن معرفة المكان الصحي يعني معرفة الدواء الناجع الذي قد يسهم في إحداث اليقظة الفكرية من جديد، ويمكن مناقشة هذه الحالة من خلال المسائل التالية:

أولا: بكل صراحة ووضوح لم تعد بغداد ودمشق وبيروت والقاهرة ذلك الإشعاع الفكري الذي لا ينضب من الصحف والمجلات ودور النشر والكتب والمؤتمرات العلمية ومراكز الفكر وغيرها، ولم تعد تلك العواصم قبلة المثقف والباحث والناشر للكتب، هذا الغياب لا يعني موت المثقف والمبدع في تلك الحواضر العتيقة؛ بل يعني أن غيابا يضرب أطنابه بسبب تلوث مناخ الأمن والحرية الذي تتنفسه الأفكار العظيمة، وغلبة التيارات السياسية المتصارعة على النفوذ، وعسكرة المثقفين بالتخويف أو التطبيل، وهيمنة الفقر الذي جوّع المؤسسات لتغلق أبوابها، والأفواه لتصمت ولا تفتحه إلا لأكلٍ يسد جوعها، وهذا الحال شكلّ هجرة واسعة للمفكرين والأدباء والعلماء والمثقفين ليغادروا الأوطان بحثا عن أرضٍ للميعاد يستوطنوا فيها الغربة والذل، ويتجرعوا الحرمان من مكتباتهم ومقاهيهم ومجالسهم الثقافية، ويغيبوا عن أعمدة الصحف والمجلات التي كانوا فرسانها لعقود من الزمن.
هذا الغياب لأهم مراكز الفكر والتأثير في عالمنا العربي كشف عن فجوة موجعة، نتحسر عليها كلما عادت ذاكرتنا للوراء، فبعد موجة أسئلة نقد العقل العربي؛ نعيش اليوم موجة أسئلة إنعاش العقل العربي !.

ثانيا: إذا قلّبنا النظر في خارطة وطننا العربي اليوم، وأردنا أن نعرف أين يزدهر التعليم ويحقق مراتب متقدمة في مؤشر التنافسية العالمي؟ وأين تطبع الكتب وتترجم اليوم بكثافة عالية؟ وأين ترتفع معدلات نشر الأبحاث العلمية في المنصات العالمية؟ وأين تقام معارض الكتب والندوات والمؤتمرات بشكل دوري لا ينقطع؟ وأين تكمن أعلى الموازنات المالية للقطاعات الثقافية والتعليمية؟ اعتقد أن مكان ذلك كله يظهر في منطقة الخليج العربي بالدرجة الأولى، ثم المغرب الأقصى.
والسبب ظاهر جدا؛ فالاستقرار السياسي أسهم بشكل واضح في أمن تلك المجتمعات وعدم وقوعها في أزمات اقتصادية خانقة تفرّق الاهتمام في جوانب التنمية الأخرى، ولم تكن تلك الدول والمجتمعات في منأى عما أصاب دول الربيع العربي، ولكن حكمة قيادة تلك الدول (الملكية) وحنكتها ساعدها بشكل كبير في عبور ذلك النفق بسلام ورفاه؛ وهي التي كانت مثار سخرية بعض مثقفي ثورات (الجمهوريات العربية)، كما أن وعي تلك المجتمعات أفقد حمّى الشعارات الزائفة وهجها ونجاعتها، وأظهرت القيادات الدينية والفكرية توازنا عميقا حفظت به مكتسبات الشعوب وحذّرت من خطر الانسياق وراء تلك الدعوات المغرضة والفوضى الماحقة.
ويبدو أن قدر تلك المنطقة العربية في خليجنا الدافئ هو أن تتولى قيادة هذه المرحلة من غياب الفكر العربي، وهي المؤهلة بشكل كبير في استرداد ثقافتنا العربية عافيتها بعد وعكات العقدين الماضيين.

ثالثا: أعتقد أيضا أن بوصلة تجديد الفكر العربي تتجه بشكل خاص ومباشر نحو مهوى الأفئدة وقبلة المسلمين ومهبط رسالة الإسلام والعمق الحقيقي لكل العرب، وأقصد المملكة العربية السعودية، وكون المملكة حاضنة الحرمين الشريفين لا معنى له في سياق تجديد الفكر وتنمية الثقافة، فقدسية المكان شيء والمنتج الفكري شيء آخر، وهذا صحيح؛ بيد أن ذلك في الحالة السعودية من حيث متطلبات النهوض والواقع الثقافي يؤكد أن تلك القبلة والبقعة المقدسة قد اجتمع فيها كل مكونات النهوض في مجالاته الفكرية المتنوعة، وإثبات ذلك يتضح من خلال مؤشرات عالمية؛ فعلى سبيل المثال: وضع مؤشر القوة الناعمة لعام 2023 السعودية في المرتبة 19 عالميا، وهي الثانية عربيا بعد الإمارات، وهذا التصنيف يشمل تحقّق سبع مجالات هي: الأعمال والتجارة، والحوكمة، والعلاقات الدولية، والثقافة والتراث، والإعلام والاتصال، والتعليم والعلوم، والأشخاص والقيم، فما يهمنا منها؛ ذلك التفوق الذي ظهر في مجالات الفكر والثقافة من خلال منجزات تحققت بأيدي سعوديين؛ وليس مجرد استيراد منتجات ثقافية أجنبية وتحويلها لصناعة محلية، والمتابع العادي للشأن الفكري يراها دون تزييف، ومع أهمية الخبر فالسعوديون لم يحتفوا به، وإعلامهم شاهد على ذلك، وبجردة حساب للحالة الثقافية في المملكة؛ فإن المثقف العربي -المتوجس دائما من منجزات السعوديين-، يكفيه لإزالة أوهامه الماضوية أن يطلع على تقرير الحالة الثقافية لعام 2021 الصادر عن وزارة الثقافة ليعرف حجم البناء الثقافي والتهيئة الكبيرة للمرافق والمجالات الجديدة من الفعاليات وحصد الجوائز، وكأن القائمين على تلك الفعاليات يقولون أنكم لم تروا شيئا بعد، وحتى التقرير يشير إلى أن القادم من البرامج والفعاليات سيكون هو الأهم والأجود.

رابعا: هذا التميز الواعد في الحالة الثقافية السعودية، يسير وفق رؤية مرسومة بدقة نحو نهوض تنموي شامل كما يظهر في برامج رؤية 2030، ولكن هذا الزخم من الإنجازات لا ينبغي أن يشيح بنظرنا نحو الرافعات الحقيقية للثقافة، والتي أود التركيز عليها؛ مع علمي بوجود مطابخ ثقافية لا تهدأ من العمل المتواصل لأجل الوصول للتقدم الفكري الثقيل، ومزيدا لتأكيد ضبط البوصلة نحو المنتج الفكري الصانع للأثر التجديدي، والخالد في أرض المعرفة مهما تقادم عليه الزمان، علينا أن نقوم بمشاريع مراجعة ونقد لأطروحاتنا الفكرية والتراثية الراهنة والماضية، والعمل البحثي الرصين وفق منهجية استقراء الموجود واستنباط المفقود؛ للوصول لتوصيف عِللنا الفكرية، والبحث عن معالجات حقيقية لإشكالياتنا التراثية والثقافية والقيمية.
ومع أهمية هذا العمل الذي لا يقوم به إلا المفكرون من الوزن الثقيل، المكتنزون من المعارف والأدوات البحثية، إلا أنه يجب التحذير من دخول هذا المنجم الفكري بأدوات ضعيفة مبنية على لغة وفكر مواقع التواصل الاجتماعي، التي تسطّح بشكل مخيف، وسريع، وتافه أحيانا؛ المعارف الرصينة، وهذا التهميش للأفكار العظيمة يُحكم بموازين جيل بعض المثقفين الجدد، الذي يبني معايير التفضيل على كثرة عدد المتابعين، ومن لهم مشاهدات أضخم، ومن يحظون بأكثر الاعجابات من الزوار؛ بغض النظر عن جودة المحتوى. وكم سيُظلم وفق هذه المعايير؛ الكثير من المفكرين والمثقفين السعوديين الكبار على مستوى العالم العربي، فالمفكرون الكبار في كل مجتمع ليسوا ظاهرة إعلامية، ولا خبر صحفي مثير، ولكنهم الباقون الراسخون بعدما تذهب الدول والمجتمعات.

خامسا: أهم رافعات الأفكار التي يجب أن تركز عليها مؤسساتنا الثقافية؛ صناعة الأفكار الحية وليست الميتة أو المميتة -حسب تعبير مالك بن نبي- ، وهذا يحصل بالبحث في الأفكار الكبرى التي تقود برامج النهوض، وتدفع بمحركات التنمية للعمل في الظروف الصعبة، وفي تاريخنا الماضي أمثلة من تلك المشاريع الكبرى الخالدة؛ مثل مشروع الغزالي في حرث الفلسفة وتهافتها، ومشروع ابن تيمية في نقض طريقة المناطقة منذ قرون، ونفي التعارض بين العقل والنقل، ومشروع الشاطبي في قراءة الشريعة من خلال مقاصدها الكلية، ومشروع ابن حزم في نقد الملل والنحل، ومشاريع ديكارت واسبينوزا وكانط وروسو في نقد العقل الديني والأخلاقي والسياسي، وما قام به الجابري وطه عبدالرحمن والمسيري وغيرهم في إعادة تكوين العقل العربي وفق مناهج نظر متجددة؛ صنعت فارقا كبيرا في الحالة الثقافية العربية خلال العقود الثلاثة الماضية، ومالم نؤسس هذه النقلة الفكرية على مناهج بحث سليمة، ومن خلال تمكين لغتنا العربية في كافة المجالات؛ وإلا فالثغرات والهوات التي في الطريق قد توقف مسيرتنا أو تصدها عن الصراط السويّ.

وفي الختام .. أرى بوضوح أن بوصلة الفكر العربي تتجه لمصانع الإنتاج في خليجنا العربي وبلاد المغرب، وسواء قام بذلك مؤسسات أو أفراد؛ فإن شروط استمرارها وابداعها التجديدي يكمن في بيئة ثقافية؛ مناخها نظيف من أخلاقيات العنصرية والفوقية والاستهلاكية الرخيصة، وهذه البيئة النظيفة لا تستمد هذا النقاء إلا بحرية مسؤولة تمارس أعمالها في منطقة خضراء واسعة؛ تزرع ولا تقلع إلا الضار، وبإذن الله ستزهر هذه الجهود حضارةً زاهيةً ينعم بخيرها العرب والعالم أجمع.

 

المقال - أ.د.مسفر بن علي القحطاني